تمهيد
بدأ الاهتمام المتزايد بوضع قواعد محاسبية من قبل الهيئات المهنية منذ بداية القرن الماضي، حيث لم يكن هناك قواعد مشتركة علمية يجري تطبيقها من قبل ممارسي مهنة المحاسبة، وكانت كل هيئة في كل من الدول الصناعية تضع القواعد المحاسبية الخاصة بها والتي ترى أنها تتلاءم مع مفاهيمها المحاسبية، وعلى هذا الأساس زاد الوعي بضرورة وضع معايير محاسبية يمكن الاسترشاد بما عند إعداد القوائم المالية في الكيانات. لعل أهم المنظمات السباقة في هذا المجال هي المعهد الأمريكي للمحاسبين القانونيين (AICPA)، ثم مجلس معايير المحاسبة المالية (FASB) في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1973 لتطوير معايير المحاسبة الأمريكية
.(US. GAAP)
من جهة أخرى وأمام الاختلافات في المبادئ والمعايير والقواعد المحاسبية التي كانت تؤدي إلى نتائج محاسبية مختلفة وأحيانا متعارضة، فقد أدركت مجموعة من الدول أهمية الحاجة إلى وجود التنسيق المشترك من خلال إيجاد قاعدة مشتركة للمقارنة و التماثل، ففي أوائل السبعينات من القرن الماضي انطلقت بعض الجهود والمحاولات لوضع أسس دولية لمهنة المحاسبة من خلال تأسيس لجنة المعايير المحاسبية الدولية (IASC)، أخذت على عاتقها مهمة تطوير المعايير المحاسبية الدولية، من أجل انشاء قاعدة واحدة لإعداد القوائم المالية لمختلف الشركات من مختلف البلدان، وذلك تجاوبا مع توسع أنشطة الاستثمار والتبادل التجاري بين مختلف دول العالم.
لذلك وقبل التطرق مباشرة لمرحلة التقارب بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير الأمريكية يجب التطرق إلى مرحلة ما قبل التقارب، أي دراسة التطور التاريخي وخصائص وبيئة كل من مجموعتي المعايير والظروف السائدة قبل بدايته وهذا من أجل إعطاء صورة متكاملة عن هذا الموضوع. على أساس ما تقدم سيتم تقسيم الفصل الأول إلى مبحثين اثنين، الأول يتطرق إلى دراسة معايير المحاسبة الأمريكية بما أنهما الأقدم تاريخيا، أما المبحث الثاني فهو يتناول تاريخ المعايير المحاسبية الدولية و تطورها.
مقدمة عامة:
تطورت المحاسبة منذ وقت طويل في بلدان مختلفة، حيث اهتمت كل دولة بوضع معاييرها المحاسبية التي تعكس ممارسات الصناعة فيها ومساهمات الهيئات المحاسبية التي أنشئت لهذا الغرض، وقد كانت هناك دول سباقة في هذا المجال بسبب التطور الصناعي فيها من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، التي عرفت تطورا صناعيا كبيرا في بدايات القرن الماضي، وهذا ما انعكس على تطور المهنة المحاسبية بالموازاة، وقد أسند دور تطوير المعايير لأول مرة للمعهد الأمريكي للمحاسبين القانونيين (AICPA) الذي أخذ على عاتقه مهمة تطوير ما عرف في ذلك الوقت بالمبادئ المحاسبية المقبولة عموما ( US
, GAAP ) التي بدأ العمل بها منذ سنة 1932. واعترافا بالتعقيد المتزايد الذي عرفه الاقتصاد الأمريكي في سنوات الستينيات و الحاجة لوجود معايير محاسبية تواكب التطورات الحاصلة في هذا المجال، أدى ذلك إلى المطالبة بإنشاء هيئة مستقلة لوضع المعايير، وقد
كان شرط الاستقلالية هو الشرط الأول في هذه الهيئة وذلك من أجل دراسة وتقييم احتياجات جميع الأطراف بما في ذلك المستثمرين، الدائنين ومعدي القوائم المالية. واستجابة لهذه المطالب ثم نقل مسؤولية تطوير المعايير إلى هيئة جديدة هي محلس معايير المحاسبة المالية (FASB) في عام 1973. ولا يزال FASB الهيئة الأولى المسئولة عن وضع المعايير الحالية في الولايات المتحدة إلى غاية اليوم وهو معترف به رسميا من طرف لجنة الأوراق المالية والبورصة (SEC) والتي منحته سلطة تطوير المعايير المحاسبية
من جهة أخرى، وعلى الصعيد الدولي، برزت فكرة المعايير المحاسبية الدولية في بداية سنوات الخميسنات بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ما عرفته هذه الفترة من تكامل اقتصادي وزيادة تدفقات رأس عير الحدود وتطور التبادلات التجارية الدولية والشركات عابرة الحدود والأسواق المالية العالمية بما يميزها من ترابط. أصبح من الضروري الاعتماد على لغة موحدة من أجل إعداد القوائم المالية وذلك من أجل إعطاء المستثمر القدرة على المقارنة بين هذه القوائم وعلى أساسها يمكنه اتخاذ القرار. فالشركات تعمل خارج حدود موطنها، والمستثمرون يقومون بالاستثمار في الشركات المحلية والأجنبية على حد سواء، فاستخدام أطر محاسبية مختلفة في مختلف المناطق يصبح مشكلة لكل من الشركات و المستثمرين. من أجل ذلك، أصبح من الضروري أن تتخلى البلدان عن أطرها المحاسبية واستخدام إطار واحد للحد من مشكلة الاختلاف. على ضوء هذه الظروف، تم في سنة 1973 انشاء لجنة المعايير المحاسبية الدولية (IASC) ومن ثم مجلس المعايير المحاسبية الدولية (IASB) في سنة 2001، من أجل العمل على تطوير مجموعة واحدة عالية الجودة ومفهومة من المعايير المحاسبية الدولية.
ومن المسلم به الآن أن المعايير المحاسبية الدولية مستخدمة على نطاق واسع من أغلبية البلدان، فقد سمحت هذه الدول أو طالبت شركاتها المحلية بإعداد القوائم المالية وفق هذه المعايير. على سبيل المثال، طلب من
الشركات في دول الاتحاد الأوروبي أن تقدم تقاريرها المالية في ظل المعايير المحاسبية الدولية في سنة 2005 استنادا إلى الاتحة 2002 الصادرة عن المفوضية الأوروبية. في الوقت نفسه، تقوم الكثير من الدول الأخرى إما بالمطالبة أو السماح للشركات المحلية باستخدام المعايير المحاسبية الدولية، وهناك دول أخرى وضعت جدولا زمنيا للتقارب وتبنيها. لكن على الرغم من هذا التوجه الدولي نحوها، الولايات المتحدة الأمريكية لم تتبناها إلى غاية اليوم، حيث مازال يتعين على شركاتها استخدام المعايير الأمريكية
في الوقت الحالي توجد مجموعتان أساسيتان من المعايير المحاسبية المستخدمة في التقرير المالي الدولي، و بالتالي لا يزال هذا يعتبر عائقا أمام تحقيق هدف أساسي من تطوير المعايير المحاسبية الدولية وهو "الوصول إلى مجموعة واحدة من المعايير المحاسبية الدولية"، بسبب الاختلاف بين هاتين المجموعتين و المشاكل الناجمة عن ذلك من جهة، وإدراك الولايات المتحدة الأمريكية للحجم والمكانة التي أصبحت تكتسيها المعايير المحاسبية الدولية في التقرير المالي من خلال التوجه الدولي المتزايد نحوها من جهة ثانية، وعدم وجود استعداد عندها من أجل استبدال معاييرها وتبين المعايير المحاسبية الدولية مباشرة من جهة ثالثة، بدأت الهيئتان المحاسبيتان FASB و IASB منذ سنوات وبالتحديد سنة 2002، بالعمل على مشروع التقارب (Convergence) بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير الأمريكية من أجل ايجاد حل للاختلافات العديدة الموجودة بينهما.
هذه المذكرة المعنونة ب "أثر الاختلاف بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير الأمريكية ,US) (GAAP وآفاق التقارب بينهما"، هي أساسا دراسة مقارنة بين مجموعتين من المعايير من خلال ابراز أهم الاختلافات بينهما وأثرها على التقرير المالي و دراسة مشروع التقارب القائم بينهما وجدواه في تحقيق الهدف الأساسي وهو الوصول إلى مجموعة واحدة عالمية من المعايير المحاسبية، يمكن طرح الإشكالية التالية:
ما مدى جدوى مشروع التقارب القائم بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير الأمريكية في الحد من أثر الاختلاف بينهما على التقرير المالي وتحقيق هدف الوصول إلى مجموعة واحدة عالمية من المعايير المحاسبية؟
على ضوء الإشكالية الرئيسية يمكن طرح الأسئلة الفرعية التالية: هل الاختلافات بين المعايير المحاسبية الدولية والمعايير الأمريكية كبيرة و مؤثرة ؟ 2. هل من الممكن أن يتحقق التقارب بينهما بشكل تام من خلال الحد من الاختلافات بينهما؟ 3. إلى أي مدى يمكن أن يؤثر مشروع التقارب الحالي في دفع الولايات المتحدة الأمريكية لاعتماد المعايير الدولية؟